ينبغي أن لا يكون من المفاجئ لنا معرفة حقيقة أن مقاطع الفيديو القصيرة قد أصبحت تكتسب شعبية ورواجاً على نحو لم نعهده من قبل. كيف لا ونحن اليوم نعيش حياة مزدحمة على نحو متزايد، لدرجة أنه من الصعب علينا أحياناً أخذ قسط من الراحة أثناء النهار. لم يعد لدينا الوقت الكافي لمشاهدة المقاطع التي تُبثّ على موقع اليوتيوب، بمعنى أننا نرغب الآن بأن تكون فترة الترفيه المخصصة لنا قصيرة، مختصرة، ممتعة، وذات صلة مباشرة بما يدور حولنا.
هناك منصات لبث مقاطع الفيديو القصيرة من أمثال “لايكي” التي تتفرّد، من حيث التصميم، عن الكثير من سائر منصات وسائل التواصل الاجتماعي التقليدية الأخرى (التي أصبحت تعرف الآن بأنها تقتصر على “كبار السن”)، وذلك لأنها تتيح للمستخدمين إنشاء ومشاركة مقاطع فيديو مسلية قصيرة، تتنوع ما بين مزامنة الشفاه أو الموضوعات الهزلية أو آخر الرقصات الرائجة أو أي شيء آخر يرغبون فيه. والغالبية العظمى من مستخدمي هذه المنصات – الذين يمثلون أكثر من نسبة 50٪ – هم من الفئة العمرية التي يطلق عليها اسم شريحة الجيل “زد”، أي الجيل الرقمي الذي يلي جيل الألفيه، وتحديداً أولئك الذين ولدوا في منتصف التسعينيات.
ومن أبرز ما يميز الجيل “زد” عن أسلافه أنه أول جيل ينتمي إلى مجتمع العالم الرقمي الأصلي. وهذا يعني أنهم الأشخاص الذين ولدوا عندما كانت الإنترنت من الأشياء البديهية التي نشؤوا عليها وبأنهم على دراية بمختلف أشكال التكنولوجيا باعتبارها الوضع الطبيعي السائد. والأمر المثير للاهتمام هو أنه في حين يعتقد البعض بأن نشأة هذا الجيل في ظل هذه التأثيرات ستنتج جيلًا من الأفراد الانطوائيين الذين يعانون من العزلة الاجتماعية، إلا أنهم في الواقع الجيل الذي أظهر استطلاع أجرته شركة “ماكينزي اند كومباني” بأنه يعطي الأولوية للتعبير عن شخصيته وذاته ويرفض الصور النمطية القديمة، في حين أنه يبقى منفتحاً على التغيير والتواصل مع الأشخاص الذين لديهم اهتمامات مشتركة، بصرف النظر عن خلفياتهم الاجتماعية والاقتصادية.
ولكن لماذا يحب أفراد الجيل “زد” مشاهدة مقاطع الفيديو القصيرة إلى هذا الحد؟
إن الطريقة التي أثرت بها التكنولوجيا على علاقات التواصل الاجتماعي الخاصة بنا وتفاعلنا مع الآخرين قد لعبت دوراً كبيراً في تشكيل أفكار وتصورات جيل الألفية والجيل “زد”، باعتبار أن هؤلاء لديهم فترات انتباه أقصر زمناً وبأنهم يتوقون إلى الإشباع الفوري لشغف الترفيه لديهم، في حين نراهم يسعون وراء اقتناص مصادر الترفيه التالية المتاحة لهم. مع أن هذا ينطبق أكثر على شريحة الجيل “زد”. ومن غير المستغرب أن لا يعرف هؤلاء أرقام هواتف والديهم، لكن الجيل “زد” سيخبرك عن آخر الصيحات والاتجاهات السائدة في أي لحظة.
وفي ضوء تلك المتغيرات المستجدة، يُعدّ الجمع بين نطاق الانتباه المنخفض ومنصة تضم مجموعة من أدوات المونتاج الأكثر تطوراً وتتيح إنشاء محتوى من صنع المستخدمين أنفسهم ولا يتطلب تشغيله سوى قدر ضئيل من البيانات، عندها سيكون لديك وسيلة رابحة بكل المقاييس وقادرة على جذب انتباه المستخدمين وثبيت أعينهم على شاشات أجهزتهم لساعات في آن معاً. وهناك ما هو أفضل من ذلك، وهو أن مقاطع الفيديو القصيرة هذه قابلة للمشاركة عبر العديد من منصات التواصل الاجتماعي الأخرى.
وقال المتحدث باسم “لايكي”، “تتميز منصات الفيديو القصيرة بتنسيقات مبتكرة واحتوائها على خاصية “تشغيل الصوت” الافتراضية، مما يعني تعرض المستخدمين لها باستمرار وتفاعلهم الدائم مع الأشياء الجديدة التي يصعب تجاهلها.” وأضاف بالقول، “إن اكتشاف مقاطع الفيديو القصيرة عن طريق الصدفة المطلقة يشجع المستخدمين على التعرف على الاتجاهات الجديدة التي يتعذر عليهم معرفتها بالوسائل الأخرى، أو تعلم الحيل العملية اليومية المفيدة، أو مشاهدة أحدث تحديات الهاشتاج، وهذا كله، يجعل المستخدمين يشعرون بالرضى والارتياح عندما يشاهدون محتوى جديداً يروق لهم وينال إعجابهم – محتوى لم يتحملوا عناء البحث عنه بشكل فاعل. وهذا الشعور هو في الواقع ما يجعلهم منشغلين ودائمي البحث عن المزيد من المحتوى الذي يستمتعون به بالطريقة ذاتها.”
وهناك سبب آخر يكمن وراء نمو وانتشار هذا النوع من مقاطع الفيديو، وهو أن هذا النوع من المنصات تحفز الإبداع والتعبير عن الذات، وهو ما قد يشكل عاملاً يعود عليهم بالكثير من المنافع ويرجح كفة الميزان لصالحهم. إن جيل الألفية عموماً يفضل استهلاك المحتوى، في حين أن الجيل “زد” يأتي بالتأكيد في طليعة صُنّاع المحتوى.
من إحدى الأشياء غير المتوقعة الناتجة عن مقاطع الفيديو القصيرة، هي اكتشاف الموسيقى، نظراً لأن الموسيقى تلعب دوراً محورياً في عملية المونتاج. هناك اثنان من الفنانين، وتحديداً: “تونز” Tones و”آي” I اللذان استفادا كثيراً من اغنيتهما “دانس مونكي” Dance Monkey، والتي انتهى بها المطاف لأن تصبح ضمن أفضل 50 أغنية على قائمة “سبوتيفاي” Spotify، والفضل الكبير في ذلك يرجع إلى استخدام هذه الأغنية كموسيقى تصويرية خلفية لما يقرب من أربعة ملايين مقطع فيديو. كما شكلت أغنية “قل ذلك” Say So لفرقة “دوجا كات” Doja Cat إيقاعاً مثيراً للوحة فنية راقصة يؤديها الملايين من المستخدمين حالياً.
هل تذكرون حديثنا عن المحتوى الذي يتم إنشاؤه من قبل المستخدمين أنفسهم؟ عندما يتعلق الأمر بمنصات إنشاء وبث مقاطع الفيديو القصيرة، فإن الجمهور هو من يحدد الاتجاهات وآخر الصيحات، لأنهم هم صناع المحتوى. وتبرز المنصة هنا كوسيلة فاعلة تستخدم لإنشاء الكثير من المحتوى المذهل الذي يجذب مختلف شرائح المجتمع، ومن خلال خاصية مشاركة المحتوى بضغطة زر واحدة، فهذا سرعان ما يشبع شغف المستخدمين بالانتشار على كافة مواقع التواصل الاجتماعي ليعلن ولادة اتجاه جديد. إن البث المباشر لمقاطع الفيديو القصيرة لا يتطلب الكثير من الجهد، وفي حال كان بمقدور المنصة أن تتيح الفرصة لعرض 15 دقيقة من أحد مقاطع الفيديو الأكثر تميزاً وشهرة ومنح إمكانية تعزيز نطاق حضور المستخدم عبر الإنترنت (يحتاج المستخدمون إلى إنشاء مقطع فيديو مدته 15 ثانية للقيام بذلك)، فإن الحافز سيكون مذهلاً حقاً.
أخيراً، كان هناك عام 2020. الفترة التي شهدت الإغلاق الكامل في العالم، وهذا بحد ذاته دفع الناس لمشاهدة كمّ هائل من الأفلام والبرامج التلفزيونية، وتحول المستخدمين إلى إنشاء مقاطع الفيديو القصيرة على منصات مثل “لايكي” للتخفيف من الشعور بالملل. وقد ساهم ذلك في إبقاء المستخدمين مستمتعين وعلى إطلاع بكل ما يدور حولهم وتحفيزهم على المشاركة. وبينما كان الناس يشعرون بالعزلة في منازلهم، فقد كانوا في الوقت ذاته يتفاعلون مع مستخدمين آخرين يعيشون الوضع ذاته في بقعة ما حول العالم. إن هذا النوع من صناعة المحتوى سرعان ما أرسى حضوراً بارزاً له في ما أصبح يعرف بمفهوم “الوضع الطبيعي الجديد” وليس في أي مكان آخر. من هنا، فإن الأمور الأخرى المتبقية التي سنشهدها معاً تدور حول كيفية تمكّن هذه المنصات من الاستمرار والنمو وتطوير أدواتها ومزاياها لضمان عدم تسرب الملل إلى نفوس مستخدميها وبالتالي التحول إلى منصة تواصل اجتماعي أخرى، واستمرارهم في تسخير قدراتهم الإبداعية من خلال مواصلة إنشاء محتوى مقاطع الفيديو القصيرة.