يشهد قطاع السلع الاستهلاكية المعبأة في الشرق الأوسط تغيرات متلاحقة، فهناك تباطؤ في النمو بالتزامن مع ارتفاع حساسية المستهلكين تجاه الأسعار، كما أصبح تجار التجزئة أكثر تطلباً فيما يسجل القطاع تزايداً في الرقمنة، ومع تزايد التشريعات والضوابط الناظمة للقطاع من جانب، يتم تخفيف قوانين الملكية من جانب آخر. وتساهم جميع هذه العوامل مجتمعة في تغيير قواعد العمل للموزعين المحليين العاملين في قطاع السلع الاستهلاكية المعبأة، حيث تفرض عليهم تحديات مرتبطة بإمكانياتهم كما تؤدي إلى إضعاف دورهم الأساسي في السوق.
لعب الموزعون المحليون دوراً حيوياً في قطاع السلع الاستهلاكية المعبأة على امتداد منطقة الشرق الأوسط حتى فترة قريبة. إذ لطالما فرضت القوانين في هذه الأسواق على منتجي العلامات التجارية أن يتعاملوا مع موزعين محليين، لكن الوضع تغير الآن، حيث يواجه المنتجون، وبالأخص الشركات الدولية ، تباطؤاً في النمو مع ارتفاع في التكاليف التشغيلية، فضلاً عن ضغوط من الأسواق المالية. وأصبحوا بالتالي أقل صبراً تجاه تراجع أداء الموزعين المحليين الذين لا يلبون أهداف الشركة المنتجة. لذا بدأ المنتجون بتطوير نماذج أعمالهم لتغطي العديد من أنشطة الموزعين المحليين، وخاصة الأنشطة التي تساهم بأكبر قدر من المردود. وتركت هذه التغييرات للموزعين خدمات ذات هوامش أرباح ضئيلة، على غرار الاستيراد والتخليص الجمركي بالإضافة إلى المستودعات والخدمات اللوجستية، إلى جانب أنشطة ذات مخاطر أعلى مرتبطة بإدارة المخزون و تحصيل المستحقات.
تباينت ردود أفعال الموزعين على هذه التغيرات، إذ قام البعض بخفض التكاليف وتعزيز الكفاءة على امتداد كافة العمليات، لكنهم يكافحون الآن لدفع النمو في المبيعات والعوائد، فيما بادر البعض الآخر إلى الدمج العامودي أو الرأسي، وخاصة في عمليات التصنيع التي تقدم هوامش إجمالية أكبر، لكن الاعتماد على هذا التوجه يعني العمل في مجال لا يملكون الخبرات والمهارات اللازمة للنجاح فيه فضلاً عن ارتفاع مخاطر الفشل. لذا يقف الموزعون الآن أمام مفترق طرق، فإما أن يختاروا مواصلة الاعتماد على نموذج عمل قديم ، أو البدء في عملية تحول تتطلب اتخاذ قرارات صعبة.
ومن أجل النجاح في ظل هذه الأجواء غير المستقرة، يجب أن يكون الموزعون أكثر جرأة على التحول. و أظهرت أبحاث ستراتيجي& خلال السنوات الماضية أن الشركات التي اعتمدت الخيارات المذكورة لاحقاً للتعامل مع التغيرات تميزت بجاهزية افضل لتحقيق أداء قوي ومستدام، الأمر الذي نسميه بنموذج “الجاهزية للنمو” “Fit for Growth” والذي يتضمن 3 محاور.
يكمن المحور الأول في ضرورة الوضوح والتناسق في استراتيجيات الموزعين وتحديد الإمكانيات المميزة لهم والضرورية لاستراتيجيتهم ولفرص نجاحهم في السوق. ومن الضروري أن يقوم الموزعون، بالشراكة مع منتجي العلامات التجارية الرئيسيين المتعاملين معهم، بوضع خارطة عامة لكافة العمليات بدءاً من مرحلة الإنتاج وصولاً إلى مرحلة عرض المنتجات في منافذ التجزئة، ومن ثم تقييم أدائهم على امتداد هذه السلسلة، ليتم إثرها تحديد المجالات والأنشطة التي يقدمون فيها قيمة إضافية متميزة.
ويتمثل المحور الثاني في أهمية وضع هيكل للتكاليف ونموذج لتخصيص رأس المال بما يتوافق مع استراتيجية الشركة. ويكمن السؤال الأهم حول خفض التكاليف في آلية تنفيذها واقسام الأعمال المشمولة في هذه العملية. وعادةً لا تقوم الشركات الأفضل أداءً بتخفيض التكاليف بشكل شامل، بل تخفّض التكاليف في قطاعات غير استراتيجية من أعمالها ومن ثم تعيد استثمار الموارد التي تم توفيرها في المجالات والأنشطة والإمكانيات الاستراتيجية. وهي بذلك خطة للرشاقة تبني عضلات تنافسية للقدرات والإمكانات التي تميز الشركة عن غيرها. وتحمل وسائل التمكين الرقمية أهمية حيوية لعملية التحول في هيكلة التكاليف، ويكمن أحد عوامل هذه الأهمية في المكاسب المحققة من حيث الإنتاجية والكفاءة نتيجة أتمتة العمليات غير الرئيسية، مما يساعد في تركيز الموارد على الأعمال ذات القيمة الإضافية الأكبر.
فيما يكمن المحور الثالث في ضرورة إعادة ترتيب هذه القدرات التي تميز الشركة، فمع إتمام هيكلة التكاليف، على الموزعين إعادة تصميم شركاتهم للتركيز على المجالات التي تتميز بها، بدءاً من الهيكل المؤسسي مروراً بحوافز العاملين وآليات اتخاذ القرار والمهارات وصولاً إلى ثقافة العمل. إذ أن الهدف من هذه العملية هو احتضان الجهود الجماعية للعاملين وتوجيه سلوكياتهم لدعم استراتيجية الشركة.
إن نموذج “الجاهزية للنمو” “Fit for Growth” الخاصة بالتحول تتيح للموزعين الاستفادة من الرشاقة المكتسبة للتوسع في حجم الأعمال بما يشمل الدخول إلى أسواق جديدة وتكوين شراكات عمل. ويتمثل أحد الخيارات الممكنة في أن تصبح الشركة موزعاً اقليمياً لمنتجي العلامات التجارية الرئيسية الذين تتعامل معهم بحيث تغطي مساحات جغرافية أكبر. ويقوم الموزع الرئيسي وفقاً لهذا الاتفاق بدور الشريك مع تنسيق واضح في الاستراتيجيات وإمكانيات تكاملية ونموذج عمل يشمل كافة العمليات بما فيها التسويق والتوزيع والمبيعات وخدمة العملاء. ويساهم هذا الدور في إيجاد انسجام فعال ومرن وملائم يتيح التفاعل السريع مع متطلبات العملاء ومخاطر المنافسة وتحديات الأسواق.
لن تكون التحديات سهلة، لكن ليس أمام معظم الموزعين في الشرق الأوسط العديد من الخيارات في ظل التغيرات الهامة التي تشهدها الأسواق الاستهلاكية في المنطقة. ومن خلال اتخاذ الخطوات الطموحة المطلوبة، يمكن للموزعين هيكلة عملياتهم، وباستطاعتهم احتلال مكانة سوقية أفضل للنمو والازدهار في الأسواق الاستهلاكية مستقبلاً.